السبت، 15 مايو 2010

حول ’’العبودية في موريتانيا’’ ...كلمة حق وشيء من الإنصاف

كثر في هذه الأيام الحديث عن "مسألة العبودية " في موريتانيا وما تحمله من هموم وتعقيدات اجتماعية وسياسية واقتصادية...ولا مراء في أهمية إثارة هذه المسألة التي تعتبر في الحقيقة مسألة أمة وهما عاما يجب تسليط الأضواء عليه.
خصوصا من طرف رجال الإعلام والصحافة ومنظمات حقوق الإنسان التي يجب أن تكون مهمتها إشاعة كلمة الحق والدفاع عن المظلومين والمحرومين مع التزام الصدق والتحلي بالإنصاف حتى تحقق بذلك دور وعمل الناصح الأمين.
غير أن القارئ والمتابع للتصريحات الصادرة أخيرا من لدن بعض المعنيين بهذا الموضوع يلاحظ أن هذه المسألة قد تعرضت لكثير من الغلو والمغالطة سواء في تصويرها للمشكلة وتشخيصها أو في تحديد المسؤولية التاريخية والأدبية عنها , أو في رؤيتها لمعالجة القضية ورسم طرق حلها والقضاء عليها ففي كثير مما قيل عن ذلك كله ما يحتاج _ على الأقل _ إلى المراجعة والتمحيص والتَّبيُّن حتى لا نقول إن فيه تحاملا وتحريفا للحقائق.
لقد كان في بلادنا أرقاء كثر مثلها في ذالك مثل جميع دول العالم وقد تعاملت الحكومات المتعاقبة على البلاد مع هذه الظاهرة من لدن فترة حكم الرئيس الأسبق المقدم محمد خونا ولد هيدالة الذي أصدر قانونا بتحرير الأرقاء... إلى نظام الرئيس العقيد ولد الطابع الذي سعى إلى إدخال شريحة الحراطين إلى الساحة السياسية فعين منها وزراء وموظفين ساميين...
إلى نظام الرئيس الشيخ سيدي محمد بن الشيخ عبد الله الذي سعى إلى معالجة النواحي القانونية هذه الظاهرة كما رفع من تمثيل شريحة الحراطين ومنح ممثليهم وحَمَلَة قضيتهم سلطانا ونفوذا كبيرا من شانه أن يمكنهم من حل تعقيدات القضية والقضاء على آثارها لو أحسنوا استغلاله ... إلى نظام الرئيس الحالي السيد محمد بن عبد العزيز الذي انتهج سياسة تنموية وخطة اقتصادية تركز على متطلبات وهموم الضعفاء والمحرومين وتقربهم من خدمات الدولة والمنافع الصادرة منها فتعجل بالقضاء على الفقر والتخلف والحرمان هو ما يعتبر أهم إنجاز يمكن أن تحصل عليه هذه المجموعة.

حول المسؤولية التاريخية ... ليسوا عبيدا في الحقيقة ولكن .....

بخصوص "المسؤولية التاريخية عن قضية العبودية وطاهرة الرق " فلا يسعني إلا أن أسجل رأيا قد يكون مخالفا لرأي الجمهور والأكثرية لكنه في _ نظري البسيط _ رأي موضوعي ومنصف وله أدلة وشواهد كثيرة _ قمت بمناقشتها وتوضيحها في بحث مستقل أرجو أن ينشر قريبا إن شاء الله تعلى _ فأقول : إن أكثر من نسبة 90 % من الأرقاء السابقين في موريتانيا كانوا أحرارا _ كما ولدتهم أمهاتهم _ فاستعبدهم الناس ظلما وعدوانا بغير حق شرعي وبيعوا في أسواق النخاسة وأورثوا الرق لذريتهم من بعدهم وهم في ذلك مظلومين وهذا أمر تطمئن إليه نفسي وتكاد أن تستيقنه يقينا كاملا لا يشوبه شك وذلك بعد دراسة مجموعة كبيرة من الوثائق والشواهد التاريخية لمنطقة غرب إفريقيا التي كانت المصدر الوحيد للرقيق إلى موريتانيا.
إن الإسلام قد أغلق جميع أبواب الاسترقاق ما عدا" الجهاد الشرعي " المستجمع لشروطه المعروفة وعلى رأسها تقديم الدعوة إلى الإسلام بين يديه ... وباختلال أي من شروطه فإنه يكون عملا غير شرعي لا تترب عليه نتائج في شريعة الإسلام كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
ومن الثابت أن منطقة غرب إفريقيا –وعلى وجه الخصوص منطقة مالي والمناطق القريبة منها - لم تعرف أي حرب جهادية منذ عهد المرابطين ما عدا حركة الحاج عمر الفوتي في القرن الثالث عشر الهجري - تلك الحركة التي كانت عملا جهاديا خالصا في الغالب لا مراء في شرعيته - وقد جُلب إلى موريتانيا عددٌ من الأرقاء من سَبْيِ الحاج عمر المذكور , وذلك سنة 1278هـ وما بعدها وتضاعفت واردات الرقيق إلى البلاد _ في تلك السنوات _ حوالي خمس مرات ’ مقارنة بالأعداد التي كانت ترد إليها من قبل فازدهرت أسواق النخاسة وأغرقت بالأرقاء.

غير أن فترة الحاج عمر هذه كانت فترة وجيزة بالمقارنة مع الفترة الطويلة التي تنيف على 800 سنة مرت بعد عهد المرابطين كانت البلاد تستورد فيها كل سنة مئات من الأرقاء من مالي والنيجر وبوركينا أفاسو وغيرها.
إن غياب الجهاد عن هذه المنطقة حقيقة لا مراء فيها وهي مدونة بشهادة أحد أكابر مؤرخي مدبنة تنبكتُ وهو الشيخ عبد الرحمن السعدي الذي يقول في كتابه "تاريخ السودان " في سياق حديثه عن غزوة للسلطان أسكيا الحاج محمد سلطان "دولة سنغاي" إلى كفار "موش-دولة بوركينافاسو" بعد ما ذكر أنه دعاهم قبل الغزوة إلى الإسلام إعمالا لأحكام الجهاد " ولم يكن في هذه البلاد جهاد قبل هذه الغزوة".
وقد ظلت أسواق الرقيق خلال هذه الفترة مكتظة بالمظلومين الذي عبدوا وبيعوا بغير حق وهو ما أثار جدلا واسعا في البلاد التي يجلبون إليها فصار كثير من الناس يتحرج من شرائهم ويستفتي العلماء عن ذلك.
وقد ظلت هذه المسألة موضع نقاش بين الفقهاء والمفتين وتعرض لها كثير منهم مثل القاضي محمود بن عمر التنبكتي ومخلوف البلبالي والشيخ أحمد باب التنبكتي مؤلف كتاب { الكشف والبيان عن أصناف مجلوب السودان }’ والشريف حمى الله التيشيتي والشيخ محمد البناني المغربي شارح مختصر خليل ’ وأحمد بن خالد الناصري السلاوي صاحب " الأستقصاء لأخبار المغرب الأقصى " وغيرهم فذكروا أن كثيرا ممن كان يباع في أسواق النخاسة في المغرب وموريتانيا هم من الأحرار المسلمين الذين راحوا ضحية حروب ونزاعات قبلية.
وقد اكتفى هؤلاء الفقهاء في معالجتهم للقضية بضرورة تسريح كل من يدعي الإسلام من الأرقاء وتصديقهم في ذلك بلا بينة ’ وحاولوا حصر أسماء القبائل وتصنيف المسلمة منها وتلك الكافرة وحثوا على ضرورة التحقق من هويات الأرقاء والتخلص ممن ظهر إسلامه منهم والاحتفاظ بغير المسلم.
وهذه الفتوى جاءت بناء على مقولة مقررة لدى بعض الفقهاء مقتضاها أنه يجوز شراء ولد الكافر الحربي غير أن هذا كان خطئا كبيرا في تطبيق هذه المقولة ذلك أن هذه القبائل الإفريقية كانت في منزلة أخرى غير منزلتي الحرب والسلم إذ لم تكن تتعامل مع سلطة إسلامية تجعلها في منزلة المعاهد أو المحارب إلا في حالات نادرة وهو ما يجعلها على فترة من النذارة _ وفي منزلة بين المنزلتين كما يقال _ بسبب غياب الحكم الإسلامي ووجود علاقات تطبعها في الغالب حالة من العصبية العمياء.
ومن الثابت أن معظم سلاطين البلاد الإسلامية المجاورة لهذه المجموعات ظلوا يخوضون حروبا من أجل الحصول على الأرقاء لما كان للنخاسة من أهمية في الاقتصاد لدى الأفارقة ’ كما كان كل من يملك سلاحا وقوة _ من قبائل الزنوج المالية والنيجرية _ يمارس أعمال القرصنة والاختطاف
و يقوم بما يمكنه من الحصول على أي رقيق كبير أو صغير ليبيعه للتجار الموريتانيين والمغاربة.
كما كانت الحروب والنزاعات القبلية التي تحدث دائما في المجتمعات القبلية مصدرا هاما لصادرات الرقيق فكل أسير يعبد ووراء كل حرب استرقاق واستعباد وهكذا ضاع شرف الإنسانية وحقوقها في هذا العالم الجائر الذي لا رحمة فيه ولا شرعية لغير السيف.
وقد يحدث في بعض الأحيان أن يقع الشخص في الأسر ويباع ثم يتخلص من الرق ويحاول الرجوع إلى وطنه فيختطف مرة أخرى من لدن بعض بني جلدته يباع مرة أخرى.
كما حدث مرة أن أحد أمراء الزنوج الممتهنين للاختطاف والنخاسة في مدينة " تنبكت " لقي المصير الذي طالما سقى منه غيره فاختطف وبيع وانتهى به الحال عبدا مملوكا يسقي النخيل في إحدى واحات موريتانيا ’ والأمر كما قال الشاعر:

اقتلوني ومالكا
واقتلوا مالكا معي
وهذه الحادثة مدونة في أحد المصادر التاريخية الموثوقة .
عرفنا إذا أن معظم من كانوا في الرق هم مظلومون وليسوا عبيدا ولكن
هذه وجهة نظر تاريخية تستند إلى نتيجة الاستقراء شبه الأغلبي للموضوع وما يوفره من معطيات , وليس هذا بالطبع حكما قضائيا ولا فتوى فقهية فللحكم القضائي ملابسات أخرى ونظر آخر يحفظ لكل ذي اجتهاد اجتهاده ويعذر بالجهل والخطأ ’ ويعمل قضية الفوات والتقادم ويراعي حمل عقود المسلمين على الصحة ’ كما أنه ينظر إلى الأمور نظرة جزئية في إطار البينات والأدلة الشخصية وليست نظرة كلية كما يفعل البحث العلمي والاجتماعي المجرد.

من يتحمل المسؤولية

هذه إذا قضية واضحة كلهم مظلومون كل مستعبدون بغير حق وائسفا.
لكن بقي أن نتساءل من يتحمل المسؤولية التاريخية والأدبية عن هذا الظلم وهذا العدوان ؟ من الذي باء بهذا الإثم الكبير فصرف هذا الإنسان البريء عن مهمته التي خلق من أجلها وهي عبادة ربه سبحانه والاستخلاف في الأرض حتى يعيش بسلام وأمن ؟.
لا أكتم شهادة الله ولا أُجُمْجِمُ ولا أنكص عن قول الحق.
اسمعوا أيها القراء الكرام اسمعوا وعوا امنحوني أفئدتكم ومسامعكم لحظة لأقول كلمة حق وكملة الحق مرة "وما ترك الحق لعمر صديقا " كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أقولها صريحة وواضحة {إن تقاليد وعادات الشعوب الإفريقية ومعتقداتها البدائية المنبثقة عن الوثنية وتصورها البدائي لنظام الحكم والمشيخة الذي يصور الحاكم وكأنه مالك للشعب له أن يصطفي منه من شاء ويبيع من شاء واعتبارها أن الأسر في الحروب ينتج ملك رقبة الأسير وبدون خيار آخر إضافة إلى حالة الفوضى والصراعات العرقية والقبلية التي ظلت تعيشها هذه المناطق...} إن هذه الأمور كلها هي التي رسخت عقلية الاسترقاق والنخاسة بين الأفارقة الزنوج وجعلت من بلادهم رافدا ومصدرا للرقيق إلى موريتانيا وهذا ما يجعلهم يتحملون معظم المسؤولية عن هذه الظاهرة النكراء وللأسف.
أما الموريتانيون البيضان فكانوا في الغالب يحصلون على الرقيق من أسواق النخاسة في تنبكت وسيكو وزارا وغيرها من مدن ومراكز بلاد السودان ’ وكانوا يبذلون كرائم أموالهم و نتيجة عملهم وتعبهم وعرق أبدانهم في الحصول على هذه التجارة فيحملون الملح على الإبل من " سبخة اجَّل - تيرس " في موريتانيا و" سبخة تاودني " في شمال مالي ويسافرون به مسافة شهرين أو أزيد في الصحراء القاحلة سفرا يَشقون به ويتحملون المصاعب نحت لهيب الشمس الحارق ’ ثم يبيعونه في أسواق إفريقيا فيستبدلونه بالأرقاء والذهب وغيرها من السلع.
لا أنفي أن هناك محاربين من البيضان كانوا يحصلون على بعض الرقيق من الحروب وأعمال الاختطاف, غير أنها كانت نادرة جدا ولا تمثل إلا أقل القليل.
ولهذا لم تكن لدى المحاربين البيضان أي أسواق للنخاسة على حين كانت الواردات الأهم من الرقيق ترد إلى البلاد من أسواق إفريقيا وقد كانت واردات إحدى القرى التاريخية في القرن الثالث عشر تبلغ كل سنة 500 رأس من الرقيق مجلوبة من أسواق مالي كما تثبنه إحدى الوثائق.
كما أن هناك بالطبع تجارا متمالؤن مع تجار الرقيق في المناطق الإفريقية لكن هذا كله لا يعكس إلا حالات نادرة جدا.
صحيح أن البيضان مثل غيرهم من شعوب العالم القديم مارسوا الاستعباد وصحيح أيضا أن هناك تجاوزات وتضييعا لحقوق بعض الأرقاء – تلك الحقوق التي رسمها الشرع الإسلامي واعتنى بها – وهذا طبيعي في كل المجتمعات الإسلامية خصوصا نلك البدوية منها التي لا تخضع لسلطة مركزية كما هو حال بلادنا.
ولكن هناك حالات وصورا مشرقة في التعامل مع الأرقاء والموالي يجب ألا ننساها وألا نغض الطرف عنها فنحن نعلم جميعا أن روح التفاهم والأخوة ظلت قائمة بين معظم أفراد المجتمع الموريتاني القديم وبين مواليهم وهو ما نجده واضحا وعفويا في شعور معظم البسطاء من" الحراطين " السابقين , نجد في نفوسهم ولاء وحبا غامرا لساداتهم وشعورا بالانتماء القبلي والأسري للأسر التي ينتمي إليها أولئك ونجد الحال نفسه لدى السادة فهم يشعرون بتلاحم واتحاد مع الأرقاء السابقين ويدرجونهم ضمن الأطر الاجتماعية التي ينتمون إليها بما يحفظ لهم الاستفادة من الأملاك العامة للقبيلة وما يترتب على ذلك من مشاركتها في تحمل النوائب ومسؤولية حماية الأفراد والدفاع عنهم فهو في كل هذا لا يتميز عن غيره من أفراد العشيرة.
وهكذا فكلما كانت الأسرة في المجتمع الموريتاني أكثر نبلا وشرفا كانت صلتها بمواليها أقوى ’ وهذا ما جعل الحراطين يندمجون نهائيا في المجتمع البيضاني ويعتبرون أنفسهم جزء لا يتجزأ من نسيجه لغة وأخلاقا وزيا وثقافة وهو موضوع يجب التركيز عليه في معالجة هذه القضية وعدم إغفاله.
ولقد ظلت المؤسسة الدينية في المجتمع الموريتاني ممثلة في العلماء والقضاة والمشايخ قيمة على حقوق الأرقاء وحمايتهم من الظلم معتمدة على الشرعية والسلطة الدينية التي أعطاها إياها المجتمع ولهذا نجد كثيرا من العلماء قد حاربوا ظاهرة استرقاق الأحرار وبذلوا أموالهم في فدائها ومن هؤلاء العالم الكبير سيدي محمد بن الحاج عبد الله بن أبي رَدَّةَ العَلُّوشي ت 1170هـ يقول البرتلي في فتح الشكور في ترجمته " وكان رحمه الله تعلى كلما رأى حرا من أحرار المسلمين في الرق يفديه من ماله ويرد إلى أهله وقد فدى في العام الذي توفي فيه كثيرا من أحرار المسلمين جعل الله تعلى ذلك في ميزان حسناته".
وكذلك أصدر فقهاء آخرون أحكاما كثيرة بتسريح بعض الأرقاء عند ما ثبتت حريتهم ولدينا نماذج عديدة من ذلك لقضاة عديدين من أمثال : الشريف محمد بن فاضل الشريف التشيتي والطالب محمد بن حنكوش قاضي تجكجة والشيخ سيديا بن المختار بن الهيبه وغير هؤلاء.
كما أن حركة "شرببة الجهادية" التي قادها الإمام العادل ناصر الدين أبو بكر بن أبهم الديماني سنة 1084هـ في جنوب غرب موريتانيا قد جعلت أولى مهامها فتح المناطق السودانية في موريتانيا وسينغال وتحريرها من سلطة الأمراء الخونة الذين كانوا يتعاملون مع الفرنسيين ويبيعون لهم أبناء المسلمين وعملت هذه الحركة على إيقاف تصدير الرقيق من السينغال حتى قال أحد الإداريين الفرنسيين "إن هذه الحركة منذ وصلت إلى الحكم في شمامة وسينغال لم يصل إلى أيدينا عبد واحد".

حقيقة المشكلة وطريقة العلاج
ليست في موريتانيا عبودية بالمعنى التقليدي نهائيا ومعظم الحالات التي يتحدث عنها البعض هي في الحقيقة ناشئة عن سوء فهم للعلاقة بين بعض الأسر البيضانية وإخوتها من الزنوج وهي علاقة تجعل بعض الأسر الزنجية تترك بعض أبنائها لدى إخوتها البيضان للعمل لديهم أو لتلقي التعليم عندهم أو تتركهم مستأجرين أجرة دائمة لديها ثم يظن البعض أن هؤلاء كانوا أرقاء لهذه الأسر يعملون لديها بدون مقابل أو يحصل تمالئ من الأجير مع بعض المغرضين فيصرح بذلك ؟.

إن جوهر المشكلة هو أن لدينا طبقة ما تزال تعاني من الآثار السيئة للعبودية من فقر وجهل وبالتالي فالعلاج يكمن في معرفة هذه الحقيقة ثم في تَحَمُّل المسؤولية في معالجتها بتثقيف هذه المجموعة وحثها على التعلم ومكافحة التسرب من المدرسة في أبنائها وتشجيعها على العمل وخلق وظائف خاصة لأفرادها وهذا ما يجب على الدولة أن تعمل من أجله ويمكن في هذا السياق إنشاء هيئة عليا تضع التصورات والخطط الخادمة لهذا الهدف.
نسمع حديثا صاخبا وأصواتا متعالية من بعض الناشطين الحقوقيين عن اضطهاد "الحراطين" وممارسة التمييز العنصري في وجههم ولا شك أن في ذلك مبالغةً وتحريفا للواقع فهل سمعتم أن شيئا مما حدث في " جنوب إفريقيا " وغيرها من الدول العنصرية حدث في بلادنا هل سمعتم بعملية تعذيب أو قتل على الهوية هل رأيتم أي شعور بالاضطهاد لدى " الحراطين " هل سمعتم بطالب طرد من المدرسة أو شخصا منع من خدمة عامة من خدمات الدولة بسبب لونه او عرقه هل سمعتم بشيء من ذلك ؟ .
الجواب لا وكلا طبعا والحمد لله رب العالمين.
إن الفقراء عموما ومنهم معظم " الحراطين " هم المستفيدون من معظم خدمات الدولة في التعليم والطب في المساعدات الزراعية والتنموية التي تقدمها وزارة التنمية الريفية مفوضية الأمن الغذائي وهم الأكثر حظا في استغلال نتاج الأرضين والزراعة والتنمية الحيوانية , بينما يعتمد كثير من البيضان على خدمات القطاع الخاص في التعليم والطب وهذا غيض من فيض طبعا.
وأرى أن أشد الناس عداوة للفقراء عموما و" الحراطين " خصوصا من يغريهم بالتخلي عن المهن البسيطة التي لا تحتاج إلى خبرة فنية ولا رأس مال مثل الحراسة وحمل الأمتعة وغيرها ولا شك أنكم معشر الضعفاء لن تسامحوا من يسعى إلى قطع رزقكم وحملكم على ما لا يليق.
نسأل الله تعلى لجميع المسلمين الخير والعافية والتوفيق لما فيه رضاه .
بقلم محمد يحيى بن محمد بن احريمو/ كاتب وباحث موريتاني yahyana79@gamil.com


الجمعة، 14 مايو 2010

في الهوية اللغوية / عبد السلام المسدّي

إن علاقة اللغة بالسياسة أمر بديهي، ولكن علاقة الخيار اللغوي بالصراع السياسي الممتد على الزمن الطويل أقلّ انجلاءً، لذلك يمكننا أن نعتبر الوعي به مسباراً نقيس به انخراط شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، في النسق التاريخي الواعد، ولئن أجمع العرب -أو كادوا يجمعون- على أن التفريط في الأرض كالإقرار بشرعية اغتصابها يهدد وجودَهم، فإنهم كالغافلين عن أن التفريط في لغتهم القومية سيكون هو المسوّغ للتفريط في الأرض، وما كان للكيان المغتصب أن يُحييَ لغة أشرفت على الممات، فارتكنت على رفوف اللغات غير المستعملة، لولا أنه يعتزم المضيّ في ليّ ذراع التاريخ واختراق قوانين الحق الشرعي. ويبقى أن نلج الآن إلى دقائق الفروق حتى يطمئن القلب بعد أن يتبصر الإدراك: إذا قلنا إن اللغة ظاهرة طبيعية تتطور بشكل طبيعي كسائر الظواهر الطبيعية كان كلامنا متلابسا تعتوره مظان سوء التأويل، والسبب هو أن لفظة الطبيعي تساق على مقصدين بينهما فارق دلالي خفيّ، وهو فارق جزئي ولكنه في بعض السياقات ثقيل الوزن. فقد تكون اللفظة منسوبة إلى الطبيعة بمعنى الكون المحيط بالإنسان، وقد تكون منسوبة إلى الطبع على معنى العرف السائد المألوف، ذاك الذي تجري به العادة كما يقال. فالفارق إذن هو استقلال المعنى الأول نسبيّا عن الدلالة الاجتماعية وانغماسه فيها بالكلية في السياق الثاني. بهذا التفريق علينا أن نفهم أن اللغة ظاهرة "طبيعية - اجتماعية" في آن معاً، فهي تتولد، وتحيا فتنمو، والإنسان -فردا وجماعة- يتدخل في مجريات أوضاعها، فيزكيها، ويفسح لها المجال كي تزدهر وتبقى، أو يزهد فيها، ويُعرض عنها، فيدفع بها نحو التلاشي والاندثار. وما إرادة الإنسان التي نتحدث عنها إلا سلطة القرار الذي هو سياسي أو لا يكون. سنقول مبدئياً: إن الهويّة في مفهومها الشامل قيمة جوهرية في حياة الإنسان بوصفه كائنا ثقافيّا قبل أن يكون كائنا بيولوجيّا، وجوهرُ الهويّة الانتماءُ، وهو الذي به يفارق الإنسان آدميّته الغريزية مرتقيا إلى آدميّته المتسامية. والانتماء مضمون وإبلاغ، فأما المضمون فعقيدة تكفل له الإيمان وتقيه شرّ الضياع في الوجود، وأما الإبلاغ فلغة تؤمّن له التواصل الإنساني الخلاق. فإذا تصاقبت دائرة الإيمان ودائرة اللسان كان الانتماء إلى التاريخ، وكان الاستشراف إلى المآل. سيبدو غريبا لكثير من الناس -بين عامتهم وخاصتهم وربما لدى خاصة خاصتهم أيضا- أن نقول لهم إن قبول تفتيت اللغة القومية هو الخطوة الأولى الحاسمة نحو قبول تفتيت الذات، وقبول تفتيت الهوية، فقبول تفتيت السيادة، ثم قبول تفتيت الأرض. وسيبدو لهم ذلك غريبا، وغيرُ بعيد أن يبدوَ لهم مستهجَنا، وأن يتأوّلوا أنه استنفار مدفوع بعقدة المؤامرة. عندما نؤكّد على أن اللغة مكوّن جوهري ضمن معمار السياسة فإننا نتعامل مع المسألة من منظور اختباري، يمليه الغطاء العقلاني الذي يتحرك تحت قبائه الفكر النقدي، وبين الموضوع الإنساني والذات الجماعية جسر واصل، تجسّده الدساتير التي يتأسس عليها مفهوم الدولة، وهنا ينبري مشهد قارع يتناساه الناس لفرط بداهته: فالدستور -في أغلب الحالات- ينص على اللغة القومية التي يتعلق بها الشعب لتكون جزءا جوهريا في تحديد هويّته، وقد يعتمد الدستور مبدأ التعدد اللغوي، ولكنه يحدد مكوناته بالتنصيص الصريح. وهكذا نجد الآن 120 دولة تنص دساتيرها على ما تعتبر أنه هو اللغة القومية. والبلاد التي لم ينصّ دستورها على ذلك فلأن الجميع يعتبر سيادة اللغة القومية أمرا بديهيا ليس في حاجة إلى التنصيص عليه كما هو الحال عند الفرنسيّين. إن اللغة الفرنسية كانت في القرن العاشر للميلاد لهجة يتكلمها أهل الحاشية الملكية، وكانت اللاتينية يومئذ هي لغة الأدب والعلم والمعرفة، وتطورت اللهجة الفرنسية، وارتقت في سلم الاعتبار الاجتماعي، ولكن اللاتينية ظلت لغة المؤسسات الجامعية، ولهذا السبب سمّي الحيّ الذي هي موجودة فيه بالحيّ اللاتينيّ، نسبة إلى اللغة التي ظل تداولها هناك مستمرّا على وجه الاستثناء. وتأسست جامعة السربون عام 1227 على يد اللاهوتي (روبير دي سربون) ولكن اللغة الفرنسية لم يستقرّ أمرها ولم تترسخ منظومتها إلا عند إنشاء الأكاديمية الفرنسية عام 1635، ومنذئذ أصبح أمر اللغة شأناً من شؤون الدولة، ولم ينصّ الدستور الفرنسي على لغة البلاد، بحكم أن ذلك من بدائه الأمور، ولكن الفرنسيين حين لاحظوا التنوّع اللغوي الطارئ على تركيبة مجتمعهم سارعوا عام 1992 إلى تنقيح دستور بلادهم، كي ينصّ على أن اللغة الفرنسية هي لغة البلاد شعبا ودولة. اتضح جلياً يومئذ كيف أن شعبا سبق له أن أوقد مشعل الحرية الإنسانية، ورفع راية التنوع البشري الخلاق، وتعلق بقداسة الانتماء إلى الوطن بعيدا عن معيار الأعراق والأديان، يلوذ بركن اللغة محتميا بها من ضياع سمات هويته. وما لبث ذاك التنقيح الدستوري أن أصبح مسوغا لتشريعات قانونية أخرى. فقد كان مرتكزا اعتمدته الحكومة في مفاوضاتها حول اتفاقيات التجارة الدولية في مطلع تسعينيّات القرن العشرين، استعداداً لمؤتمرها الموعود لتاريخ (15 أبريل 1994) في مراكش، حيث تمّ فعلاً الإعلان عن تأسيس المنظمة العالمية للتجارة، وخاضت فرنسا حرباً دبلوماسية عنيدة ضد الأمريكان الذين كانوا يريدون تعميم مبدإ الحرية التجارية، على أساس أن كل منتج هو سلعة في سوق التبادل، بما في ذلك الإنتاج الفني كالكتاب والأشرطة السينمائية والأشرطة الغنائية وكل ما هو من فصيلة الإبداع، وكان الفرنسيون يريدون التمييز الصريح بين الإنتاج المرتبط بعالم الماديات والإنتاج المتصل بعوالم الرمز، وانتصر الفرنسيون فيما اصطلح عليه بالاستثناء الثقافي، ثمّ حرص الفرنسيون على إدراجه ضمن بنود الدستور الموحد لدول الاتحاد الأوروبي، بعد أن دفعوا بمجموعة الدول الفرنكوفونية إلى تزكيته في مؤتمرهم الدوري الذي انعقد في هانوي عام 1997 والذي اعتلى فيه بطرس بطرس غالي منصب الأمين العام لمنظمة الفرنكوفونية. العرب

هويتنا

لكل أمة أو شعب ثوابتُ كبرى ومبادئُ رئيسية وموجِّهَاتٌ هادية يَرجع إليها الفضل في تشكيل كيانه وصياغة السمات المميِّزة لشخصيته، يتبلور في إطارها الوجدان والضمير الجماعي للمجتمع، وتتشابك وشائج الرحم والقربى فيه مشكلة بذلك "هويته" الوطنية بأبعادها المختلفة . ونحن أبناء شنقيط نعتز بهويتنا الوطنية التي هي نتاج تفاعل عضوي وانصهارٍ تاريخي وتلا قحٍ حضاري عميق بين مكوناتها الرئيسية التى ظل الإسلام حاضنا لها وحاكما عليها بوصفه مرجعية عليا فوق ما سواه، يستقي منه المجتمع منظومتَه المعرفية وسُلَّم قِيَّمه وسلوكياتِه. فيما شَكلت لغةُ القرءان إضافة إلى اللغات الوطنية - البولارية والسوننكية والولفية - بقيةَ مكونات تلك الهوية التي انطبعت بصماتُها واضحة في الملامح العامة لشعبنا الذي ظل متمسكا بـ: أولا: الإسلام جامعا، وهو المكوِّن الأساسي للهوية الوطنية الذي وحَّد شعبَنا وانصهرت في بوتقته مختلف الأعراق والفئات والقبائل، فَصَيَّرَها خلقا جديدا. فكان عاملَ وحدة وتجانس وألفة شكل الأساسَ الركين للتعايش لتعايش لذي طبع تاريخ شعبنا المسلم طوال الحقب الماضية . والمكون الثاني من مكونات الهوية عندنا هو اللغة العربية. وقد أصبحت لغة إنسانية كونية منذ اختارها الله تعالى لتكون وعاء مباركا لرسالة الخاتِمَة ، ولسانا مبيِّنا للذكر الحكيم، ( إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون). فتوثقت بها علائق الوحدة والوئام بين الأمم والشعوب المختلفة التي اعتَنَقت الإسلام وتَمَثَّلت تعاليمَه، فاستَوعَبَت بحكم التطور والنضج الحاصل فيها مدنياتٍ مختلفةً، وورِثتْ حضاراتٍ متعددةً من مصر إلى البلقان، ومن فارس والهند إلى المغرب الأقصى وفوتا؛ استوعبتها جميعا وأضافت إليها بفضل الإسلام حضارة تالدة لا تزال آثارها شاهدة، لتبقى الحاضن الأمين لأشواق تلك الشعوب الروحيةِ إلى جانب إبداعاتها وعطاءاتها العلمية . هذا المكون الهام من مكونات هويتنا يتعرض منذ بعض الوقت لهجمة مشبوهة تستهدف اقتلاعه من الجذور ومحوَه من الوجود، والربطَ المستمر بينه وبين التردي والانهيار في الأوضاع التربوية بالبلدان الإسلامية التي تعتمد في منظوماتها التعليمية على لغة القرآن . و في المقابل عانت لغة القرءان خلال العقود الماضية من تقديم البعض لها بطريقة خاطئة فصلتها عن سر عظمتها وقدمتها للناس بوصفها لغة قوم فحسب لا لغة أمة . إن إعادة لغة القرءان لموقعها الطبيعي يتطلب جهودا حثيثة تقدمها للمجتمع بطريقة إسلامية أصيلة لا فرض فيها ولا إلغاء .